الاثنين، 10 سبتمبر 2012

ليلة الموتى الأحياء .. أو.. Million Dollar Baby




إهداء إلى أحمد جمال سعد الدين ... أبو جمال. ـ

وقائع المباراة رقم 109: ـ

   حول مائدة "الكولوزيوم" تتجاور قلوب السادة والرعاع في ساديّة. قد أتى الجميع من أجل مرأى الدم. الإمبراطور محفوفٌ  برجال دولته، والجماهير أتت لتشاهد الأبطال يصرعون السباع والنمور، أو تصرعهم السباع والنمور أو يصرعون بعضهم البعض. يقف البطل -بشريّاً كان أو وحشًا- وقد اقتنص الشرف، وترك ضحيته جثة فقدت حياتها قبل أن تغادرها الروْح؛ قد فقدت الاحترام والدماء.

   قوانين الحلبة لم تتغير منذ العهد الأول؛ فالهزيمة هي النهاية الحتميّة للجميع. فوق "الكولوزيوم" تُنسج سحائب الهزيمة بيدِ القدر. وتنزل قبضته الرماديّة فتظفر ببطل أنفق سنينًا يصرع الوحوش، ويصرع الذين كانوا أبطالاً من قبله. فلكلٍ مرة أخيرة لا يكون فيها بطلاً، ويغدو جثة مضرجة في دمائها. وقد غادرتها أعين الناس إلى بطلٍ جديد أو قل جثة جديدة، في دائرة باقية مادامت الأرضُ.

   في طرفٍ مظلم على حافة المائدة، يقف كهلٌ بوجهه الخشبي الخالي من أي تعبير. يدرك ذلك الذي يراه. يرى عقبان الموت في السماء، والدماء في الرمال. يدرك أن الهزيمة هي منتهى الأبطال. وهذه هي سُنة الدنيا، وهذه هي الحقيقة.

   وقف الكهلُ أمام بطلِه مكسورِ الوجه، قد انفتحت جروحه وسالت الدماء منها، وبدأت الخسارة. لقد كنتُ أرى وأدركُ كلَّ شيء، فلماذا لم أوقف ذلك العبث الدائر!؟ لو كانت معي المنشفة البيضاء، لوضعتها على خيط الحلبة، وانتهى الأمر!! هل كنتُ لأفعل ذلك!؟ ها هو الشرف يسقط، ويزوي المجد، وها هي ندبة تخلفت في قلب الكهل، لم تبرحه ولم يشفَ.


عن ماكوشلا: ـ
   
  في تلك الليلة سقطت "الدب الأزرق"، وانتصبت قامة "ماريان" فوق الحلبة. شعرت بأن اللحظات قد توقفت، واستطالت إلى أبدٍ تملؤه صيحات "ماكوشلا". لقد صرعت "الدب الأزرق"، ولم تعد تلك التي أتت يومًا من "ميزوري" .. الفتاة عديمة القيمة، التي تأكل بقايا قطع اللحم التي تقدمها للزبائن، وتضع القطع المعدنيّة في وعاءٍ زجاجيّ فوق منضدة متهالكة، تلك الفتاة تشعر الآن -كما يقول الأمريكان- بأنها أصبحت ميليون دولار!!

   في تلك اللحظات ومضت صورٌ ضبابيّة من ماضٍ بعيد، صورٌ من الألم تتكون باهتة أمامها لتلك الطفلة ذات الثلاثة عشر عامًا تقدِّم الطعام للزبائن في أحد المطاعم البالية، ووجه أبيها الميّت. تلك المرأة البدينة التي اعتادت أن تناديها بـ "أمي"، وتلك النظرة الساخرة على وجهها يوم أتت لها الفتاة بطلةً!! كيس الملاكمة الذي كلما لكمته، طرحها إلى الوراء. الكلب المقتول!! هل قتله أبوها كي يخفف آلامه؟ أم لأنه غدا بلا قيمة أو نفع؟ .. الأخ المسجون، والأخت التي تربي طفلاً لتحصل على الإعانة الحكوميّة. سنوات من الشعور بالدونيّة من الجميع. سنوات من الإيمان بالذات، لا تَصْدُقُه تفاصيلُ الواقع. والشوق إلى نجاح مبهم، ودرب مجهول، وحلم لا طريق إليه.

   لا قيمة لكل ذلك الآن وقد وطأت قدماها أرضَ المجد. تتقزم كلُ تلك الآلام جميعًا أمام وجه "فرانكي" الذت تفتتت تقاسيمه الخشبيّة عن ابتسامة منيرة. لم تعد النادلة ذات العقود الثلاثة التي أصبحت عجوزًا على تحقيق حلمها. والمجلات تكتب عن بطلة العالم وحاملة اللقب "ماجي فيتزجيرالد".

   وفجأة تتوقف اللحظات وسيلُ الصور، ويُظلم وجه "فرانكي" بنظرة هلع. تختفي أصوات "ماكوشلا"، ثم تكتنف الموجودات عتمة كاملة، وتنسحب "ماريان" إلى داخلها.


عن "فرانكي" صانع الموتى: ـ
 

   في البدء خلق الله  السماوات والأرض. وكانت الأرض خربة، وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة. وروح الله يرف على وجه المياه. .... ما الذي حدث بعد ذلك؟ لا يعرف "فرانكي". واجهه السؤال أمام عين "سكراب" الضائعة، ولم يجد جوابًا. في كل ليلة يستند على ركبتيه أمام تمثال "يسوع" المسيح، ولا يلاقي جوابًا. في كل صباح في الكنيسة، ولا يصدق جوابًا. ... وقال الله ليكن نور فكان نور ... الآب والابن والكلمة.

   من أجل البشر صُلِب المسيح، فحمل عنهم خطيتهم الأولى. ولكن فرانكي لم يُسقِط عنه حِمله منذ تلك الليلة. أبقى على دفء جمرة الذنب المقدّسَة في روحه تمزقها.  طوبى لهؤلاء الذين يراكمون ذنوبهم، فيصنعون منها جحيمًا خاصًا يمكثون فيه بإرادتهم الكاملة.

   في تلك الليلة رآى "فرانكي" الموتَ يصطاد "سكراب". رآه وعرفه، ولم يستطع أن يوقفه!! ومنذ ذلك الحين، دلف العجوز إلى جحيمه الخاص. أبقى على (ضحيته!!) أمام عينيه، يراه كل يوم، كشوكة تنغرس في روحه، وتذكرها بذنبها المزعوم. لم يترك الحلبة، انغمس فيها، ولم يبرحها. وكأنه عذراء تحرس نار المعبد بعناية؛ لأن النار إن خبت جمرتها، فإن جسد الفتاة هو وقود النار الجديدة. كذا كان "فرانكي"!! حريص على عذاب روحه ونفسه؛ في البداية ألصق بنفسه ذنبًا لم يقترفه، وحرص على بقاء هذا الذنب حيًا بين عينيه لسنين تالية!!

   الحلبة إلهٌ يبتلع أحد قربانين يتصارعان في أرضه. والهزيمة –كما قلنا- هي النهاية الحتميّة. في ركن الحلبة يقف "فرانكي" محاولاً أن يؤخر النهاية إلى أبعد أجلٍ ممكن. في كل مرة يتولى فيها بطلاً جديدًا، يشعر أنه أمام جثة جديدة وهزيمة. ومن ثمّ صار شعاره هو:
Always Protect yourself
   هذه هي القاعدة: قبل أن تسدد لكمتك، لابد أن تقي نفسك ردَّها. لا مجازفة ولا شجاعة في غير موضعها!! لقد أردك "فرانكي" أنه يقود أبطاله إلى حتفهم في هاوية حتميّة، فلا نهاية غير ذلك. وكلما زاد الطموح، قَرُبت النهاية. وكلما زاد الحلم، سَرُع الركدُ تجاه هاوية المنتهى. ربما يدرك البطولة، وتتعلق به الأبصار، ولكن ذلك لن يحميه عندما يحين موعد الهزيمة .. ربما يؤخرها، لكن وقوعها لن ينتفي.

   في المرة التي شاهدها فيها "فرانكي" تكيل اللكمات إلى كيس الملاكمة بغير إتقان، وقدميها ثابتتين إلى الأرض بغير حركة .. في تلك المرة عرف أنه يواجه أحد أسوأ كوابيسه. عرف أن "ماجي فيتزجيرالد" من هؤلاء الذين مسّتهم لعنة الطموح المقدّسَة، وأنها لن تقف قبل الهاوية. عندما أعرض عنها في البداية، كان يدفع عن روحه ذنبًا جديدًا على وشك الولادة. ويرفض أن يقدِّم للحلبة جثة جديدة تزدردها بغير اهتمام في الرحلة السرمديّة لالتهام الأبطال.
ـ"أَرني رجلاً لا يمتك إلا قلبه، وسوف أُريك رجلاً يمكن هزيمته" .. هكذا قال "فرانكي". كلما رآي الطموح، رآى معه الموت، وكلما شعر بهما، زاد خوفه. كلما رآى الفتى النحيل "دانجر"، الممتلئ بالطموح، والذي لن يصمد لأكثر من خمسة ثواني في قتال .. كلما رآه شعر بخوفه يتجسد أمامه وأعتلت وجهه ملامح الغضب.


   في اللحظة التي سقطت فيها "الدب الأزرق"، سقط عن كاهل فرانكي عشرون عامًا ويزيد. ها هي اللحظات تقف وتطول إلى آبد ترتفع فيه أنف "ماجي" بالانتصار. فقد خطي بها إلى أرض المجد سليمةَ من غير سوء. وأخذ بيدها إلى البطولة، وأصبحا على بعد خطوة من التحرر النهائيّ. الذنب الذي مزقه طيلة عقدين صار موته على بعد خطوة. وروحه على وشك التحرر. وجه "ماجي" المصمم يضيء بالابتسام عهدًا جديدًا يعدُ "فرانكي" بنومٍ هادئ، ووتخفف من رحلات الكنيسة اليوميّة بلا طائل من ورائها، وفرجة يرى منها نورًا رغم خطاباته إلى ابنته التي تُرد دون أن تُفَض.
   وفجأة تتوقف اللحظات، وينتهي سيل وعود العهد الجديد، وتكتنف الموجودات عتمة كاملة، تردُ الكهل المُثقَل إلى الظلام. سقطت "ماجي" وتحطم عنقها، ومعه تضخم وجه "سكراب" ليملأ الوجود من حول "فرانكي". خطت الفتاة خطوتها الأولى في أرض الانتصار، وخطوتها الثانية هوت بها إلى قاع الهاوية. ومعها انفرط قلبي العجوز المنكود وتفجرت أزمته. وبدلاً من أن يتحرر، ارتد إلى ذنب أعنف من الأول أمام جثة الفتاة الهامدة لا حراك فيها، تطلب منه أن يريحها من آلام الإهمال وانعدام القيمة كما أراحها منها من قبل، وإن اختلف الطريق إلى ذلك. عاش "فرانكي" عشرين سنة بذنب "سكراب"، وها هو اليوم يموت بذنب "ماجي" .. عجوز نادم ممزق الروح، يجلس في مطعم بعيد، ويأكل فطيرة الليمون على روْح قتيلته ... "ماكوشلا".