الاثنين، 18 يوليو 2011

وقائع ليالي الجمر



في قصة قصيرة لعظيم الأدب الروسيّ "أنطون تشيخوف"، حكى لنا عن رجلٍ يعمل كموظف في قياس الأراضي، ساقته ظروفُ عمله إلى ضيعة في قرية بعيدة، وفي طريقه من محطة القطار إلى هذه الضيعة، استأجر عربة لتقله إلى هناك، وأثناء السير، دبَّ الشكُ في نفس الموظف تجاه الحوذيّ، وتنامى الخوفُه أكثر وأكثر مع هبوط الظلام، فأخذ يسأل الحوذيَّ عن إذا ما كان الطريق آمناً، وخالياً من اللصوص، فلم يجبه الحوذيُّ بكلمه تطمئنه، فأخذ يحكي له –كاذباَ- عن كونه مسلحاً، وعن أنه غير خائف من مواجهة اللصوص، وسرد له –كاذباً- حكاية عن قتله لمجموعة من قطَّاع الطريق واجههم ذات مرة. وبينما هو على ذلك، أوقف الحوذيُّ العربة فجأة، وهبط منها مسرعاً فزعاً، وأخذ يتوسل للموظف ألا يقتله، ثم انطلق راكضاً في رعب شديد.
إن "تشيخوف" في هذه القصة قد رسم صورة لرجلين مذعورين حتى الموت، كلٌّ من صاحبه.

في اليلة الثانية من ليالي الانفلات الأمنيّ الذي اجتاح مصر، تلك الليالي التي أرادها لنا "صاحبُ أولِ ضربة جويِّة"، تلك الليالي التي أسميها أنا بـ: "ليالي الجمر"، حدثت واقعة مشابهة. كانت برامج التلفزيون في هذه الليلة تتلقى سيلاً من المداخلات عن البلطجية الذين يروعون المواطنين ويسرقونهم، وبتزايد المكالمات التي تبعث منها أصواتٌ مرعوبٌة، نما بداخلي هلعٌ لا يُوصف، قاطعه صوت جلبة، يتأتَّى من الشارع؛ تبينت بعد ذلك أنهم ساكنو البنايات المجاورة، قد نزلوا إلى الشارع كي يحموا بيوتهم، ونزلت معهم. وبينما الناس على هذه الحال، رأينا شاباً يأتي من بُعدِ أمتار، كان غريباً عن شارعنا، فبادره البعضُ بالسؤال: أنت مين يا كابتن؟ فامتنع الفتى عن الإجابة، وشخط في سائله، فزعق فيه مَنْ حولِه، وتجمع الناس، وقد تأكدوا أنه أحد هؤلاء البلطجية، الذين يخبر عنهم التليفزيون، وأنه جاء كاستطلاع للمنطقة، قبل أن يتصل برفاقه من المجرمين ليوافوه إليها. وارتفعت العصيُّ والقضبان الحديديّة في الهواء، وأُمْسِكَ الفتى بألف يد، وسأله الجميعُ: فين إللي معاك ياض؟ وتطوعت عشراتُ الأيادي لتصفعه، وارتسمت على وجهه أعتى علامات الرعب الحيوانيّ الأول، وأخذ يردد في هيستريا: أنا جاي أشتري سجاير .... أنا جاي أشتري سجاير، وبالطبع لم يصدقه أحد، وبدأ البعض بضربه بالعصي بالفعل، وتعالت الصيحات أكثر ... لم ينقذ الفتى من هذا كله إلاَّ صوت البقَّال، الذي قال للناس: أنا عارفه يا جماعة؛ ده بيشتري منِّي سجاير على طول، ثم أضاف شابٌ آخر، استدعته الصيحات: سيبوه يا جماعة؛ الراجل ده بيلعب معانا كورة، أنا شوفته كذا مرة وأعرفه كويس ... هدأت الأصوات نوعاً، وانهار الصبي الذي حسبه الناسُ بلطجياً، في بكاء هيستيريّ أوقعه أرضاً. وانفض الجمعُ من حولِه، وبقى إلى جواره بعض الناس؛ يحاولون تهدئة روعه، ومساعدته على النهوض.

إن رئيسنا المخلوع لم يدخر شيئاً، مشروعاً كان أو غير مشروع، كي يبقى فوق كرسيِّه، ضرب المتظاهرين بقنابل سامة، روَّعَ شعباً كاملاً، وقتل أبطاله، أخرج بلطجيته ومساجينه، وأطلقهم كذئاب مسعورة في الشوارع، تجرح وتعض وتقتل، وما خفيَ كان أعظم ... إن رجلاً كهذا لا يجب أن نسامحه، فضلاً عن شكره أو البكاء عليه ... هذا رجلٌ قد رد أمة كاملة – في ليالٍ كالجمر- إلى مخاوف الإنسان الحيوانية الأولى، وجعلهم بفقدون الأمن ... حولهم لمذعورين يفتكون بمذعورين ... ينامون على الأرض ليلاً خوفاً من الرصاص الطائر فوق رءوسهم في هلع شديد، فلو أن الله سامحه على استبداد أعوام ثلاثين، فإنه لن يسامحه على هذه الليالي، فهو وأمثله هم حطب جهنم؛ فـ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِين.َ

هناك تعليق واحد: