الأحد، 13 مايو 2012

الشعب في مواجهة "لاري فلينت"


في أحد أهم أفلامه، يحكي لنا التشيكيّ الكبير "ميلوش فورمان" عن "لاري فلينت" أحد أهم أعمدة صناعة "المواد الإباحية" في الولايات المتحدة ومن ثمَّ العالم. في أحد المشاهد، يقف البطل على خشبة المسرح، ويعرض مجموعة من الصور تتنوع بين موضوعين: مشاهد ضحايا الحروب، ومشاهد إباحية عارية. ويحاول إقناعنا بأن الفسق الحقيقيّ ليس في الصور العارية التي لا يُضارُ أحدٌ منها، بل من الحروب التي تقتل آلاف البشر.

لم يروقني -بالقطع- المنطق المعووج للمشهد، ولكن من يأبه بحديث رجل كهذا!؟ كانت المفاجأة أن أجد ذات الكلمات على لسان أحد أهم مثقفي أوروبا، إذ يقول: "الفجور لا يكمن في الأفلام الإباحية، بل في أن ثمّة أناسٍ بيننا يموتون بسبب الجوع والحروب العبثيّة." ... إنه البرتغالي الرهيب "جوزية ساراماجو" صاحب رواية "العمى". الاختلاف مع "ساراماجو" هو أمرٌ آخر، ولذا فسأحاول إيضاح سبب رفضي لذلك الرأي.

تختزل تلك العبارة "الأفلام الإباحيّة" في صورٍ تعرضُ بشرًا يمارسون الجنس أمام الكاميرا. يشاهدهم آخرون ولا يضرُّون بذلك سوى أنفسهم. ولكن الأمر في رأي أكثر عمقًا من ذلك. فتلك المواد الإباحيّة التي "تستعمل" البشر كشيء يتم عرضه مقابل كمية من الأموال، هي ناتج ذات الحضارة الماديّة التي جعلت من المنفعة دينًا لها، وانفصلت تمامًا عن أي قيمة إلا قيمة الربح. فهي ذات مرة تستخدم البشر العراة من أجل ذلك، ومرة أخرى تقتل البشر الفقراء من أجل ذلك أيضًا. إن "البورن" و"الحروب" هما تجليات مختلفة لنفس الفلسفة التي تحرك الأشياء في عالم اليوم. وهما -في طنِّي- على نفس الدرجة من الفجور. هما مثل مريض بذات الكبد، لن يختلف الأمر إن كان فيروس "سي" أو ورم سرطانيّ. كلاهما قاتل، وأحدهما يؤدِّي إلى الآخر.

وأنا أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، وأظن أن "الحروب" وصورها الدامية هي أخفُ ضررًا (على المستوى البعيد) من مجتمع تسامح مع تداول "المواد الإباحية". إن تلك الحروب تشبه "الألم" الذي يوجع الجسد من آنٍ إلى آخر، فيدفع الواحد منَّا إلى التحرك بحثًا عن علاج، وأخطر السرطانات، هي تلك التي تنتشر عبر الجسد من دون ألم. فـ "الإباحيّة" التي يتم النظر لها على أنها مجرد "قلة أدب" و"هرمونات شباب" هي سرطانٌ خبيث، يحصر الإنسان في عالم الحس، ويلعب على شهوة الحيوان القابع بداخله، التي لن تجدي معه بعد ذلك الفلسفات والفنون والأديان. ويتم تكريس منطق المنفعة الماديّة وحدها كمحرك للأشياء!!

إن النفور من صورة "فتاة فيتنام" الباكية كانت سببًا في توقف الحرب التي خاضها الأمريكان على قومها. أما صور السيد "لاري فلينت" العارية، فكانت سببًا -من بين أسباب أخرى- في خلق جيل خاض تلك الحرب التي امتهنت آدميّة شعب كامل. صور "لاري فلينت" كانت سببًا ونتجية لذات الفلسفة المميتة!!

والله أعلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق